لماذا بعد أكثر من 1350 سنة على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الأبرار رضوان الله عليهم، تجد أن هناك حكومات تعادي هذا الثائر العظيم وتحاول طمس معالم قضيته التي نهض من اجل تحقيقها وإيصال مبادئها للناس؟. ولماذا تتشابه مواقف معظم الحكام في الشعور المعادي لهذه القضية، على الرغم من اختلافهم في الزمان والمكان والفلسفة السياسية لنظام الحـــكم؟.
إن الإجابة عن ذلك لا يمكن بطبيعة الحال أن تقتصر على دراسة الأحداث التي جرت في نهار العاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة النبوية الشريفة، لأن هذه الأحداث على بشاعتها وعنفها وانعدام مروءة المعسكر الأموي الذي قام بها، لا يمكنها لوحدها اعطاء الزخم والاستمرارية للقضية الحسينية، مما يضطر الباحث المدقق إلى الغوص في الظروف التي سبقتها، لاسيما تلك المرتبطة بنشأة وتطور نظام الحكم في الإسلام بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، تلك الظروف التي أوصلت معاوية بن أبي سفيان إلى سدة الحكم، ومنحته الجرأة قبيل وفاته على أخذ البيعة لولده النزق والمتهور يزيد مع معرفته بنقائصه وعيوبه، فقد تمكن ابن أبي سفيان من خداع الأمة الإسلامية فحكم بوصفه خليفة المسلمين وولي الأمر الواجب الطاعة، ونجح في ترسيخ أركان حكمه لأسباب عدة منها:
- إن تجربة الحكم بعد الرسول صلى الله عليه وآله لم تكن واضحة المعالم والأسس لعامة الناس، فقد بدأت ببيعة الفرد الواحد في سقيفة بني ساعده ثم بولاية العهد من الخليفة الأول إلى الثاني، ثم بشورى محددة الشروط والاتجاه في عهد الخليفة الثالث، ثم بثورة تثير الشكوك في شرعيتها انتهت بمقتل الخليفة الثالث وإعلان البيعة للخليفة الرابع في ظروف فتنة عمياء تتقلب فيها المواقف وتتصارع فيها الأهواء بشكل متوتر أرهق المسلمين وأنهك قواهم، حتى انتهى الأمر باستشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعدم الوفاء بالبيعة للأمام الحسن عليه السلام من قبل أتباعه ومناصريه، مما اضطره إلى عقد صلحه المشهور مع معاوية وتسليمه مكرها، ولكن بشروط محددة خلافة المسلمين له، فحرص الأخير على تفسير الأمر للناس بأنه دليل على أحقيته بالحكم، وشرعيته الإلهية في تسنم مقعد الخلافة.
- وجود تيار قوي من المنافقين مثل امتدادا لعبد الله بن أبي سلول وأبي سفيان بن حرب ونظائرهم من اليهود والعرب من الذين دخلوا دين الإسلام بدافع الخوف أو الطمع، ولكنهم اضمروا الحقد والكراهية وعدم الإيمان، وانتهزوا الفرص لتهديم أركان هذا الدين من الداخل بشتى الطرق، فضلا عن وجود البعض من الصحابة ممن تناسوا أحكام القرآن والسنة وتهافتوا على ملذات الدنيا ومغرياتها، فحرص معاوية على استغلالهم للقيام بدور وعاظ السلاطين الذين يخدرون الناس باسم الدين، ليلبسوا حكمه لباس الإسلام من خلال ابتداع الأحاديث والروايات وتحريف معاني السور والآيات، وليشكلوا البطانة السيئة التي أوجدت جذور عقيدة الجبر في تاريخ الأمة الإسلامية.
- ضعف الوعي الثقافي العام للأمة آنذاك، وعدم تشربها أحكام الدين من مناهله الصافية، وانغماسها اللاواعي بثقافة ما قبل الإسلام، مما يسر أمر الارتداد نحو الممارسات الجاهلية القائمة على العصبية من جهة، وارتداء الحكم لباس الإسلام في ظل ممارسات قيصرية وكسروية غير خافية من جهة أخرى.
هذه الأسباب وغيرها مكنت معاوية من خداع معظم الناس والاستمرار في الحكم لأكثر من عشرين سنة، وقد حاول استثمارها من اجل تولية يزيد انطلاقا من حب الديمومة والبقاء للحكم في عقبه، وكان بإمكانه النجاح في مخططه لو سلمت الأمة وخضعت لهذه الإرادة الأموية، فيصبح يزيد من ولاة الأمر الواجب طاعتهم، ولنظرت الأجيال اللاحقة لحكمه وحكم أمثاله على أنه حكم شرعي لا غبار عليه، وأن أي إنكار أو تمرد على هكذا حكام سينظر له بارتياب، ولأحتج عليه بالقول: أن معاوية عهد بولاية الأمر لابنه الفاسق الفاجر فبايعته الأمة على الأمر والطاعة، وقبلت به، وأن ما قبلته الأمة في صدر دينها حجة على من يأتي بعد ذلك. مما يجعل ثقافة الخضوع والاستعباد للحكام مهما كانت سماتهم الخلقية وطبيعة حكمهم سنة داخل الأمة الإسلامية، وأساسا تستند إليه في تحديد العلاقة بين حكامها ومحكوميها، ولوجدت الأجيال المسلمة المعاصرة التي تشعر بالمسؤولية، وتحمل مشاعر الحرية في أعماقها أن دينها غير جدير بالاحترام، ولا يوفر لها قاعدة من أجل بناء نظام حكم شوروي أو ديمقراطي مدني قابل للارتقاء إلى مستوى النموذج الحضاري العالمي.
لكن ما جعل معاوية يصاب بخيبة أمل كبيرة في مسعاه المخادع هو وجود تلك المعارضة الصلبة التي واجهها من بعض الشخصيات المدنية (نسبة إلى مدينة الرسول المباركة) وعلى رأسهم: الامام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.. إلا أن جميع المعارضين لا يقاسون بالحسين عليه السلام، ولأمكن إسكاتهم وإنهاء معارضتهم بسهولة لا تترك أثرا، أما معارضة الامام الحسين عليه السلام فهي معارضة إستراتيجية أفشلت المشروع الأموي برمته وذلك:
- لأن الحسين عليه السلام هو سبط نبي الأمة صلى الله عليه وآله، وابن سيدة نساء العالمين عليها السلام الذي تواترت الأحاديث النبوية الشريفة على بيان فضله وكرامته، مما يجعل أفعاله وأقواله مقياسا على أحكام الدين الإسلامي في قضية نظام الحكم وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
- ولأن الحسين عليه السلام أبن علي بن أبي طالب عليه السلام فتى الإسلام الأول، وأعظم الناس فضلا وعلما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي تشايع على حبه طيف واسع من المسلمين.
- ولأن الحسين عليه السلام استنادا إلى وثيقة الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية هو الأحق بولاية العهد وتولي منصب الخلافة بعد استشهاد الحسن عليه السلام وهلاك معاوية، ولا يمكن لمعاوية إنكار ذلك أو التهرب منه إلا بطريق الخداع أو الإكراه.
- ولأن الحسين عليه السلام من بني هاشم عشيرة النبي وذوي الشوكة البارزين في ترسيخ الدين وتثبيت أركانه.
إذا هكذا معارضة كان معاوية يدرك أنها ستسقط شرعية حكم يزيد وتفشل مشروعه السلطوي، فحرص في سنته الأخيرة على اقناع الحسين عليه السلام لإعطاء البيعة ليزيد، ولم ينجح في ذلك مع كل ما استعمله من أساليب الترغيب والترهيب، فلما مات، وفرض جهاز الدولة الأموية آنذاك البيعة ليزيد محاولا إلباسه ثوب الدين والصلاح، وإكراه الناس عليها بحكم الأمر الواقع وكأنها قضاء وقدر لا يرد، برز الامام الحسين عليه السلام ليكون ثائرا صلبا على الانحراف الخطير في مؤسسة الحكم، وليعلن أن الثورة على الحاكم الفاجر المستحل لحرام الله والمحرم لحلاله، والمستعبد لخلق الله، والناهب لثرواتهم واجبا شرعيا على الأمة أفرادا وجماعات تقوم به بدون تردد، فكانت ارادة الحسين عليه السلام في الحرية، والإصلاح، ورفض الظلم والعدوان، بارزة في كثير من المناسبات ومنها أقواله المشهورة عليه السلام كقوله: (ما خرجت أشرا ولا بطرا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنه عن المنكر..)، (إن الدعي ابن الدعي ركس بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة)، (إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما..(
وثورة الامام الحسين عليه السلام بثقله الروحي ووزنه القيادي على حالة الانحراف في قيادة الدولة والاستبداد والاستئثار في السلطة أعطى للأمة الإسلامية خصوصا، وللبشرية عموما منهاجا تتعامل على أساسه مع حكامها الظالمين، فلا شرعية للحاكم مع الظلم والاستعباد للناس مهما كانت مبرراته وفلسفته السياسية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا طاعة لحاكم فاجر وإنما الطاعة للحاكم البار الصالح العادل الذي يكون رشيدا في حكمه وكفوءا في إدارته.
والحسين عليه السلام من خلال منهاجه الإصلاحي الثوري لم يسقط شرعية حكم يزيد وينزع قدسيته المزعومة، بل اسقط كذلك شرعية كل الطغاة من الحكام المستبدين على امتداد التاريخ، ونزع كل مبرراتهم المزعومة سواء كانت دينية أو غير دينية، وأسقط معهم فلسفات قطاع عريض من وعاظ السلاطين وفقهاء السوء وفلاسفة السلطة، فأصبح الشعور المعادي للامام الحسين منهاجا وسلوكا وطقوسا وقضية شعورا تتوافق عليه كل الحكومات التي تؤسس حكمها على الظلم والجور، كما أصبح الحسين عليه السلام مصدر الهام وثبات ومقاومة لكل الثائرين من أجل العدل، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والكرامة الإنسانية مهما اختلفت انتماءاتهم ومشاربهم الفكرية.
وسيبقى الصراع بين خط الحرية والاعتدال والعلم الذي يمثله الحسين عليه السلام، وخط الظلم والتطرف والجهل الذي يمثله حكام السوء وأتباعهم مستمرا، وسيزداد حدة في المستقبل، ولكن سيكون الانتصار النهائي لخط الامام الحسين عليه السلام لما يمثله من أمل انساني حضاري في غد أفضل يحقق السعادة للبشرية في مسيرة صعودها نحو الارتقاء والتكامل.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق